حصانة عباس ابراهيم مثبتة بأبعادٍ ثلاثية
رزمة الادّعاءات، التي وجّهها المحقّق العدلي في جريمة مرفأ بيروت القاضي طارق بيطار، مطلع الشهر الجاري، حملت عناصر مفاجئة كونها ضمت أسماءً لم تكن في الحسبان فيما أهملت شخصيات أخرى كان من البديهي شمولها في القرار.
تداعيات هذه الادعاءات لا تزال تجري فصولها على الساحة السياسية والأمنية والقضائية. وفيما أبدع أهل السياسة في المرافعات المتتالية عن أنفسهم بقي اسم المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، هو عنصر المفاجأة الكبرى، الذي أثار لغطاً وتساؤلات عن الأسباب التي دفعت إلى الادعاء عليه تزامنًا مع حملة ممنهجة من جهات عدّة عليه. مع العلم أنه وفق القانون فإنّ مسؤولية الأمن العام محصورة بحركة دخول وخروج الأشخاص على المعابر والحدود والمرافئ، فيما أمن المرفأ هو من صلاحيّة استخبارات الجيش!
بعد تثبيت وزير الداخلية والبلديات محمد فهمي حصانة المدير العام للأمن العام، قرّرت النيابة العامة تثبيت حصانة الأخير أيضاً فالمحامي العام التمييزي القاضي غسان خوري، بحسب التسريبات، أبلغ المحقق العدلي أن الأدلّة التي تقدّم بها غير كافية للادّعاء على ابراهيم، وأنّه اقترح عليه عوضًا عن ذلك استجواب المدير العام للأمن العام قبل المضيّ في الإجراءات.
المحقق العدلي طارق البيطار تسلّم مطالعة النيابة العامة التمييزية المؤلفة من خمس صفحات، والتي يُطلب فيها الاستماع إلى اللواء عباس ابراهيم وإيداعها الأدلّة والشبهات للنظر بالادّعاء عليه، وسيعمد البيطار إلى تحديد موعد لذلك، بحسب المصادر.
وفيما تُفيد مصادر مطلعة أنّ لا صحة لما ورد لجهة نزع صلاحية الملاحقة من يد القاضي طارق بيطار وتعطيلها، تفنّد أن الشخصيات السياسية والأمنيّة التي ادّعى عليها القاضي البيطار، ولم يتمكّن من الاستحصال على الإذن بملاحقتها، تبقى محصّنة من مسار الملاحقة القضائية حتّى بعد صدور القرار الاتّهامي وبدء المحاكمات أمام المجلس العدلي، حيث يمكن الاستماع إلى أقوال هؤلاء وإفاداتهم أمام المجلس العدلي كشهود فقط، وفق تفسيرات قضائية.
المشكلة في مفهوم الحصانة هي تعارضها مع مبدأ العدالة، التي يجب أن تسود لا سيّما في مثل هذه الجريمة الكبرى التي دمرت مرفأ العاصمة وأهلكت مئات الأرواح الأموات منهم والأحياء الذين فقدوا أعزاءً أو أولئك الذي لا يزالون يعانون آلام الجراح التي أصابتهم جراء التفجير المميت.
لكن التشتت اللّبناني الذي يطال كل شيء، أصاب تحقيق العدالة المنتقاة في هذا اللف. وما سببته فوضى التحقيقات والادعاءات غير المتوازنة، ليس أقل إيلاماً من آثار التفجير نفسه على قلوب أهالي الشهداء والجرحى كما مفهوم العدالة والثواب والعقاب.
وما جرى مؤخراً من تسريبات وبيانات مضادة حول مسألة استدعاء اللواء ابراهيم، يضرب معايير الحق والقانون والشفافية.
تحت مسمى “مكتب الادعاء لدى النقابة في فاجعة انفجار المرفأ” وزّع نقيب المحامين في بيروت ملحم خلف بيانًا فيه أنّ “المحامي العام التمييزي وضع مطالعته بشأن إذن ملاحقة المدير العام للأمن العام ويبدو أنّها تذهب بإتجاه إنتزاع صلاحية المحقق العدلي بالملاحقة وتعطيلها”. ما استدعى ردًا من وكلاء الدفاع عن اللّواء عباس إبراهيم المحامين وسام المذبوح وأحمد شوقي المستراح وقاسم كريم عبر بيان ضاد يطرح جملة تساؤلات: “مَن هو صاحب المصلحة من تسريب مضمون القرار والغاية منه؟ والتساؤل الأهم: ما هي صفة مكتب الإدعاء لتبني نشر القرار قبل إبلاغه من المعنيين وتحديداً موكلنا الذي هو خارج البلاد وهل هو يقوم بدور القاضي والجلاد في آن معاً؟
والتساؤل الأخير: ما هو دور المحقق العدلي بالسماح لطرف بالنزاع والتنسيق معه وبتنصيب نفسه ناطقاً رسمياً لكشف مطالعة سرية دوناً عن باقي المعنيين بالملف؟”.
هذه التساؤلات التي قادت إلى ارتياب وكلاء الدفاع عن ابراهيم، المشغول باستقدام النفط من العراق للبنان، من مسار التحقيق والاتهامات التي سيقت لوكله فيما هو مشغول خارج البلاد ولم يُبلغ سوى عبر الإعلام.
وعلى الرغم بأنّ ما صدر عن مكتب الادعاء لجهة حقيقة مضمونه يتطابق مع قناعة وكلاء ابراهيم بالأصول القانونية وتتطابق مع قرار النيابة العامة التمييزية ولكن ما أثار ريبتهم هو “تسريب القرار ومضمونه من طرف في الدعوى هو الأحرص على الإبقاء على سرية التحقيق والإجراءات، مما يؤكد لدينا القناعة من الضغوطات التي مورست وما زالت تمارس على الملف والقيمين عليه والتي كان المستهدف منها موكلنا دون أدنى شك، مما يحمّل المسؤولية للذين يقومون بهكذا ممارسات من تمييع التحقيق ومنع النيل من الجناة الفعليين لغايات أصبحت مثيرة للإلتباس الخارجة عن الأطر القانونية”.
وإستند حجب الأذن من قِبل الخوري إلى عدّة مواد قانونية منها المادة 61 من قانون الموظفين التي تحصر طلب إذن الملاحقة بالنيابة العامة الاستئنافية أمام النيابة العامة التمييزية وبما أنّ الملف نُظر أمام النيابة العامة التمييزية التي قامت بالإدعاء أيضاً وبالتالي أصبحت “التمييزية” طرفاً في الملف ولا يحق لها البتّ بالطلب الوارد اليها”.
كما تحصر المادة 361 من أصول المحاكمات الجزائية موضوع الإدعاء في الجرائم المُحالة أمام المجلس العدلي بالنيابة العامة التمييزية فقط، وبعد درس الملف الذي أودعه البيطار للادعاء على اللواء ابراهيم لم تجد الاخيرة الادلة والقرائن الكافية للادعاء.
في المعايير القانونية والقضائية لا شبهات على هذه المسارات، إلا أن ما يُثير حفيظة البعض أن الثغرات التي تركها المحقق العدلي وسط الجهود الجبارة والجدية سعياً للحقيقة والعدالة، هذه أضعفت التحقيق والثقة بنتائجه مع استثناء جهات أساسية في تحمّل مسؤولية تخزين نيترات الأمونيوم في المرفأ.
وضمن كلّ هذا كان الاستهداف الذي طاول مدير عام الأمن العام عباس ابراهيم والحملة الممنهجة لتشويه صورته أمام الرأي العام اللبناني بعد دور حافل في الوساطات والاتفاقات والصفقات الرابحة محليًا وعربيًا ودوليًا. ورغم كلّ ذلك يؤكد المقربون منه أنه سيستمر بالعمل بعيداً من الحسابات السياسية الضيقة أو الاستثمار السياسي، وتقديم كل معلوماته وإمكانياته لمعرفة حقيقة ما جرى في مرفأ بيروت، رغم الحملات الممنهجة ضده من قبل جهات تستغل الشهداء وعائلاتهم لغايات سياسية.
حصانة ابراهيم بأبعادها السياسية والقضائية والأمنية تأمنت لعدم مثوله كمدّعى عليه بل كشاهد. وفيما يحق للمحقق العدلي أن يستدعي من يشاء لتبيان حقيقة ما جرى في جريمة تفجير مرفأ بيروت، بعد أن ضاع عام كامل لمعرفة من وكيف ولماذا حصل التفجير الأفظع في تاريخ المدينة التي أزهقت روحها لحظة الشرارة الأولى لنيترات الموت، من الواجب استدراك ترميم هذه الثغرات وعدم التراجع عن الخطوات التي تظهر الحقيقة وتُحاسب مرتكبي الجرم الوطني الكبير.
رانيا برو